أنشيلوتي يودع العقل وتشابي ألونسو يعيد الحلم

شارك هذه المقالة مع أصدقائك!

شكؤا متابعينا الكرام لمتابعتكم خبر عن أنشيلوتي يودع العقل وتشابي ألونسو يعيد الحلم

في قاعات متاهة “سيوداد ريال مدريد“، حيث تُحفظ كؤوس الأبطال خلف زجاج سميك كالتحف النادرة، تهب هذه الأيام رياحٌ غريبة تحمل عبق الأزمات، كارلو أنشيلوتي، الساحر العجوز الذي أدار دفة الفريق بيدٍ من حرير، يبدو فجأة كربان سفينة تواجه أمواجاً عاتية: إصابات متتالية تفتك بالتشكيلة، أداء متذبذب للنجوم، وفجأة يجد ريال مدريد نفسه اليوم أمام اختبار وجودي مختلف: الدوري يبتعد شيئا فشيئا كسراب مبثوث في صحراء “كاستيا”، فينيسيوس جونيور يركض كظل بلا روح، مبابي لم يجد التوليفة المناسبة، والخط الدفاعي يشيخ ببطءٍ مؤلم، أما العجوز أنشيلوتي ففاقد لحسه التدريبي أصلا،  وكل ما في جعبته انهار للأبد بعد الهزيمة المنكرة أمام أرسنال في دوري أبطال أوروبا. 

وبينما تتهاوى الأعمدة واحدا تلو الآخر، يلوح في الأفق اسمٌ وحيد كشبحٍ يثير الحنين: تشابي ألونسو، الأسطورة السابقة، التي تسير مسيرتها التدريبية بخطوات واثقة في ألمانيا، في باير ليفركوزن، يقف تشابي كفنانٍ ينسج لوحته التكتيكية بخيوطٍ من ذهب، يعيد إحياء كرة القدم الجميلة بأسلوبٍ يذكرنا بزمن “الجالاكتيكوس”، لكن هل يمكن لهذا الإسباني الوسيم أن يكون الحل السحري؟ وهل حقاً يحتاج النادي إلى عودة ابنه الضال؟ 

تشابي ألونسو

تشابي يمثل حلماً جميلاً: دمٌ مدريدي، فهمٌ عميق لثقافة النادي، ورؤية كروية عصرية، لكن ريال مدريد ليس ناديا للمشاريع، إنه آلة ضخمة لا تتوقف، تطلب النتائج الآن وليس غداً، بينما تشابي، رغم عبقريته الواضحة، يحتاج إلى الوقت والعمل الكثير، فهل نستسلم لغريزة العودة إلى الجذور، أم نبحث عن حلول أكثر واقعية لأزمات الحاضر؟ 

المفارقة المؤلمة تكمن في أن تشابي نفسه قد يكون ضحية هذه المعادلة المستحيلة، حيث يتصارع عقلان: عقلٌ يحلم بالعودة إلى الجذور، وعقلٌ عملي يدرك أن النادي بحاجة إلى مدرب جاهز لخوض المعارك بكامل سلاحه، وبما أن الحياة، كما كرة القدم،  نادراً ما تقدم حلولاً سهلةً بالأبيض والأسود، ففي قلب هذه المعادلة المستعصية، ربما تكمن الإجابة في منطقة رمادية، ما بين بين، أو  في تلك المساحة الواقعة بين الحلم والواقع: نعم، لا يوجد حل سحري فوري يمكنه إصلاح كل شيء بين ليلة وضحاها، ولكن هذا لا ينفي أن تشابي ألونسو قد يكون الاستثمار الأكثر روعةً لمستقبل النادي، والجوهرة التي تحتاج إلى بعض الصقل لتلمع بأقصى إشعاعها.

“أحياناً يجب أن نضيع كي نعثر على أنفسنا من جديد”. 
الكاتب الإسباني كاميلو خوسيه ثيلا.

ما نسمعه 

في عهده الثاني كرئيس، الذي بدأ عام 2009،  التزم فلورنتينو بيريز بقاعدة غير مكتوبة: “المدرب الذي يهديك الدوري أو دوري الأبطال، يُكافأ بمواصلة الرحلة”، قاعدةٌ احترمها بصرامة، حتى جاء عام 2023. ذلك العام الذي لم يحقق فيه أنشيلوتي سوى كأس الملك، بينما ظلت “اللا ديكا” (الدوري الإسباني ودوري الأبطال) بعيدة المنال، باستثناء كأس العالم للأندية بنسختها القديمة ذات السبعة فرق، التي بدت كـتذكارٍ من زمنٍ يرفض الرحيل، لكن المفارقة، أن تلك القاعدة التي كُسرت جاءت بثمارها لاحقًا، حين حقق الريال الثنائية الموسم التالي، وكأنما أرادت الأقدار أن تختبر إيمان بيريز بفلسفته، لكن اليوم، تهمس الأرواح القديمة في ممرات “البرنابيو” بأن القاعدة قد تُكسر مرة أخرى.

تشابي ألونسو، ذو الـ43 ربيعا، ليس مجرد مدرب، بل ريحٌ جديدة تحمل معها فلسفةً أكثر ديناميكية، وربما مفتاحًا لاستخراج كنوزٍ كامنة في هذا الفريق لم يمسسها أحد بعد. بعض المقربين من دائرة صنع القرار يرون أن “الأسطورة القديمة” قد يكون الأجدر بكتابة الفصل التالي من الملحمة، لا سيما مع شبح التكرار الذي يطارَد أنشيلوتي، لكن السؤال الذي يطفو كفقاعة في كأس بيريز الذهبية: كيف سيوّجه الرئيس قرارًا كهذا؟ كيف سيبيع الفكرة للجماهير التي كانت تعشق “الجنرال” بينما تُغريها حداثة “الفارس الشاب”؟ هل سيكون التغيير مجرد رقم جديد في سجل المتاحف الفاخرة، أم نقلةً حقيقية تُعيد الروح إلى القلعة البيضاء؟

داخل دائرة أنشيلوتي المقربة، تُرفع اليدان في إشارة الإنكار: “لا أحد في العاصمة الإسبانية أخبر الجنرال الإيطالي بأن رحيله محسوم”، لكن في نفس النَفَس، يهمسون بجملة تحمل أكثر من تفسير: “هناك تطورات في ملف ألونسو”.

أنشيلوتي نفسه يرى الظل الطويل لوكلاء النادي، أولئك الذين يملكون مفاتيح الثقة ، وهم ينسجون خيوط اتصالاتهم مع معسكر المدرب الإسباني الشاب، وكأنهم يستعدون فعلًا، وأمام هذه العاصفة من التكهنات، اختار أنشيلوتي وفريقه سلاحا نادرا في عالم كرة القدم اليوم: “الهدوء”، إنهم مثل بحّارة متمرسين يعرفون أن الأمواج الإعلامية ستضرب السفينة، لكنهم يُصرون على تثبيت الدفة نحو هدف واحد، استكمال الرحلة. 

نعم؛ فهذا المشهد ليس جديدا على أنشيلوتي. فقبل أشهر، عندما تسربت أنباء عن استعداد سانتياجو سولاري، مدير كرة القدم السابق واللاعب المخضرم،  لخلافته إذا ترنحت النتائج، تعامل الإيطالي بنفس البراغماتية الصامتة، واليوم، يعود شبح “البديل الداخلي” للظهور من جديد، حيث كشفت مصادر داخل النادي لصحيفة “ذي أثليتيك“، أن سولاري هو الخيار الأول لقيادة الفريق بصفة مؤقتة إذا استدعت الأزمة تدخلا سريعا، حيث بدأ سانتياجو سولاري رحلته التدريبية مع كاستيا كمدرب مجهول، ليتحوّل فجأة إلى “البديل المفاجئ” عندما أُقيل لوبيتيجي في أكتوبر 2018. رغم إقالته بعد خمسة أشهر فقط، رغم تحقيق كأس العالم للأندية، ظل الأرجنتيني كشبحٍ يدور في ممرات النادي، قبل أن يعود بقوة عام 2022 كمدير كرة يحمل في جعبته خبرة المكسيك (كلوب أمريكا)، وثقة بيريز غير المشروطة.

كارلو أنشيلوتي
كارلو أنشيلوتي

وعلى الرغم من مكانته كـ”ابن النادي”، واجه سولاري بعض الصعوبات في البداية: احتكاكات مع مدير الأكاديمية مانويل فرنانديز، وتوترات مع إدارة الفريق النسائي، وشكوك من أنشيلوتي وطاقمه الذين رأوا فيه “عيون بيريز” لكن الأرجنتيني استطاع بذكاء أن يبني جسوراً عميقة مع أنشيلوتي عبر حضور اجتماعات حاسمة مع سانشيز وكالافات، ليتحول بعدها من “بديل مريب” إلى “حليف استراتيجي”، ثم يرسخ مكانته كحلقة وصل بين الأكاديمية والفريق الأول. 

وفي خضم هذه التحولات، جاء تجديد عقد أنشيلوتي في ديسمبر 2023 كرسالة واضحة، قرار لم يتخذه الرئيس عادةً في منتصف الموسم، لكنه كان ضرورياً بعد أن رفض الإيطالي إغراء البرازيل، ليفتح الباب أمام تحول الإيطالي من مدرب إلى “رمز مؤسسي”، من قائد الفريق إلى حكيم يعبر بخبرته بين أقسام النادي المختلفة، وهكذا تدور عجلة ريال مدريد، حيث سولاري ينتظر في الظل، وأنشيلوتي يحمل في حقيبته أكثر من خيار، وكلاهما يعرفان أن في كرة القدم، كما في الحياة، لا شيء يدوم إلى الأبد، فما الذي بعثر الأوراق أصلًا؟ 

أوراق محروقة

“سأتخذ قراراتي بنفسي عندما أشعر أنها صحيحة”
تشابي ألونسو.

بمجرد أن أعلنت الساعة الوصول إلى الدقيقة 70، تجمد أنشيلوتي في مكانه كتمثال من الرخام، أنفاسه الثقيلة كانت تُسمع فوق ضجيج الجماهير، وبينما عيناه تتجولان يائستين بين مقاعد البدلاء، لم يجد سوى أوراق لعب محروقة، فاسكيز العجوز، وفران جارسيا الخام، ورودريجو الذي بدا منهكاً قبل أن يلمس الكرة، كانت يد أنشيلوتي ترتعش وهو يمسك بورقة التبديلات، كطبيب يُجبر على إجراء جراحة بمشرط صدئ: مودريتش (39 ربيعاً) يفسح الطريق لفاسكيز (33 عاماً)، ,كأن التاريخ يعيد نفسه بسخرية قاسية، أما  التغيير الأخير فكانت مجرد صرخة يأس باهتة: إبراهيم دياز يغادر الملعب بينما عيناه تفيضان بأسئلة لا إجابة لها، وبينما كانت الكرات تتساقط في شباك كورتوا كأوراق الخريف، التقطت الكاميرات نظرة بيلينجهام الحائرة والمرة، النتيجة النهائية (0-3) لم تكن مجرد هزيمة، بل كشفاً صارخاً لواقع مرير، وريال مدريد لم يعد ذلك العملاق الذي يرهب أوروبا. 

المفارقة المؤلمة تكمن في أن هذا الفريق الذي أنفق 505 ملايين يورو على الرواتب هذا الموسم، يعاني من “فقر مدقع” في البدائل، تشواميني وكامافينجا يلعبان خارج مراكزهم الطبيعية، فالفيردي يُستنزف كحصان يُجر عربة ثقيلة، بينما يقف أنشيلوتي عاجزاً أمام خيارين مرّين: الاعتماد على نجومه الأساسيين حتى الانهيار، أو اللجوء لمواهب الكاستيا غير الجاهزة، أضف إلى ذلك كثرة الإصابات في الخط الدفاعي تحديدًا، وقد قالت نظرات كارفاخال وميليتاو وألابا، على شاشة العرض الصغيرة ما لا تستطيع التقارير الطبية التعبير عنه: ريال مدريد دخل الموسم بخط دفاع هش كقلعة من الورق، تتهاوى عند أول اختبار حقيقي. 

كارلو أنشيلوتي - ريال مدريد - المصدر: Gettyimages
كارلو أنشيلوتي – ريال مدريد – المصدر: Gettyimages

هذا المشهد المرضي كان مجرد انعكاس لتناقض أكبر يخيم على النادي من قبو البرنابيو إلى أعلى مدرجاته، فبينما كان اللاعبون المصابون يشاهدون الكارثة من المستشفى، كان فلورنتينو بيريز في الطابق السفلي يحصي خسائر من نوع آخر، مليار يورو أنفقت على تجديد الملعب، بينما ينهار الفريق فوق العشب الجديد الذي كلف الملايين، المفارقة الساخرة هنا أن المقاعد الذهبية تلمع تحت الأضواء الفاخرة، بينما التشكيلة الأساسية تحترق في وضح النهار ومشروع التجديد الذي كان يفترض أن يكون مصدر فخر، تحول إلى وحش يلتهم موارد النادي بشراهة.

وفي قلب هذه الفوضى، تبرز صفقة مبابي أيضًا كرمز لهذا الانفصام المؤسسي،  النجم الفرنسي الذي هز العالم بانتقاله المجاني، بدا كطائر استوائي نادر حبيس قفص ذهبي ، متألقاً في عزلة عن واقع الفريق المتردي، بينما يجلس اندريك (18 عاما) وأردا جولر (20 عاما) على المقاعد طوال المباراة، كشاهدين صامتين على أزمة تخطيط تهدد بتحويل النادي الملكي إلى مجرد واجهة فاخرة لنجومية فردية عاجزة عن صنع المجد الجماعي، ثم عند صافرة النهاية، تجسدت المأساة كلها في مشهدين: مبابي يجلس عابسًا على المقعد الخلفي، وأنشيلوتي يمسح جبينه بمنديل أصبح رمادياً من كثرة الاستخدام. 

أخبار ريال مدريد اليوم - كيليان مبابي ضد مانشستر سيتي
كيليان مبابي – ريال مدريد ضد مانشستر سيتي
(المصدر:Gettyimages)

وفي غرفة الصحافة، كان أنشيلوتي يلتهم كلماته كما يلتهم المهزوم كبرياءه، “نحتاج إلى المراجعة”، قالها بلهجةٍ لا تخفي إحباطا أصبح جزءا من سيرته الذاتية، نعم؛ فالنادي الذي كان يبني الأساطير، أصبح اليوم يبني بعض المتاحف فقط، جميلة من الخارج فعلًا، لكنها فارغة من الداخل، هذه الهزيمة لم تكن مجرد نتيجة لثلاثة أهداف في شباكه، بل كانت الفصل الأخير في قصة انهيار ممنهج، وريال مدريد لم يخسر فقط ثلاث نقاط، بل خسر روحه، تلك الروح التي جعلته أسطورة.  

وفي عز تلك المهزلة والمأساة، تسربت الأنباء كالضوء الخافت عبر نوافذ الصحافة الإسبانية: ريال مدريد يمد خيوطه نحو تشابي ألونسو، مدير باير ليفركوزن الفني، وكأنه يبحث عن ضالته بين أوراق التاريخ، الإسباني الذي خاض 158 معركة تحت راية الفريق الملكي كلاعب، قد يعود الآن كمنقذٍ يحمل مفتاح “البرنابيو” في جيبه، مستعداً لخلافة أنشيلوتي إذا ما قرر الفريق فصل الأخير عن كرسيه، لكن القرار، كطقسٍ قديم، معلق بين فكي التنين: مستقبل أنشيلوتي الغامض، وموسم قد يكتب للملكي مجداً جديداً أو يدفنها تحت أنقاض “المتاحف الفاخرة”، ثم تأتي وكالة “IDUB” خلف الكواليس، لتنسج خيوط هذه القصة بعناية فائقة. 

الوكالة التي تدير مسيرة أسماء لامعة مثل أندوني إيراولا مدرب بورنموث، و إرنستو فالفيردي مهندس أتلتيك بيلباو، بالإضافة إلى مارتن زوبيمندي نجم ريال سوسيداد الذي طارده أرسنال بشراسة، أما على الجانب التجاري، فتتولى وكالة “بيست أوف يو” زمام الأمور، بقيادة أوسكار ريبو، ذلك الوسيط الذي لعب دوراً محورياً في صفقة مبابي الصيف الماضي، يضغط الآن بكل قوته لإتمام الصفقة بين الملكي المهزوم وبين تشابي ألونسو، وكأن خيوط القدر تتشابك لترسم طريقاً واحداً يؤدي إلى مدريد، ليبقى السؤال حائرًا: هل يمكن استعادة روح الإنتصار في أروقة النادي قبل أن تتحول الهزيمة إلى تراث، والمجد إلى ذكرى؟

اللامنتمي 

“اللامنتمي.. هو الرجل المولود في الحفرة”
كولن ولسون. 

تحت قيادة تشابي ألونسو، تحول باير ليفركوزن من فريق كان يترنح على حافة الهاوية إلى عملاق يقف شامخا في صدارة البوندسليجا جنبا إلى جنب مع بايرن ميونخ. لم يكن هذا التحول مجرد صدفة، بل كان ثمرة رؤية واضحة وإرادة صلبة.

في غضون عام واحد فقط، تمكن المدرب الإسباني من محو سمعة لقب “نيفركوزن” الذي لطخ اسم النادي لعقود طويلة، تلك السمعة التي ولدت من رحم الخسارات المتكررة والانهيارات النفسية. الفريق الذي كان يعاني من عقدة المواجهات الكبيرة، أصبح الآن يقف بثبات في المباريات الحاسمة، ووراء هذا التحول الكبير تقف شخصية تشابي ألونسو القيادية. 

سيمون رولفز، المدير الرياضي للنادي، لم يتردد في إبراز دور المدرب الإسباني عندما قال: “الجدية والنضج اللذان نراهما اليوم على أرض الملعب هما انعكاس مباشر لشخصية تشابي”.

وأضاف: “إنه منافس بطبعه، يحمل عقلية البطل، وقد نجح في نقل هذه الروح إلى كل لاعب في الفريق”. هذه العقلية الجديدة تجلت بوضوح في مباراة موناكو بالدوري الأوروبي الموسم الماضي، عندما تمكن الفريق من تجاوز سلسلة الإخفاقات في ركلات الترجيح ليحقق انتصارا تاريخيا، وكأنه يدفن مع هذا الانتصار كل عقد الماضي ويلوّح بمستقبل أكثر إشراقا.

تشابي ألونسو - باير ليفركوزن
تشابي ألونسو – باير ليفركوزن
(المصدر:Gettyimages)

على المستوى التكتيكي، استطاع ألونسو أن يصهر كل خبراته التي اكتسبها من العمل تحت قيادة عمالقة التدريب مثل جوارديولا ومورينيو وأنشيلوتي وبينيتيز، ليخلق منها أسلوبا خاصا يجمع بين القوة الدفاعية والخطورة الهجومية. بدأ ببناء خط دفاعي متين، ثم طور قدرات الفريق في الهجمات المرتدة، قبل أن ينتقل إلى مرحلة أكثر تقدما حيث أصبح الفريق قادرا على التحكم الكامل في مجريات المباراة، واليوم، لم يعد ليفركوزن مجرد فريق صعب المضاهاة، بل أصبح يقدم كرة قدم مبهرة تجعله أحد أكثر الفرق إثارة للمشاهدة في ألمانيا، وهذا نتاج جهد طويل، نعم؛ ففي قلب فلسفة ألونسو الكروية، تكمن مفارقة عظيمة: ذلك التناغم الغريب بين التمسك بالأصول التي تعلمها في ريال سوسيداد،  حيث نشأ على كرة القدم المتحكمة القائمة على الاستحواذ، وبين المرونة الذهنية التي تجعله اليوم قادراً على تغيير أساليب فريقه كما تغير الحرباء ألوانها. 

تلك الروح التي جعلت فريقه في ريال مدريد “ب” يحقق 70% استحواذ في سبع مباريات، هي نفسها التي تسمح له الآن بالتحول من أستاذ في التحكم بالكرة إلى خبير في الهجمات الخاطفة، حسبما تقتضي الحاجة، لقد كان سوسيداد مدرسته الأولى في فنون الاستحواذ، لكن رحلته التدريبية علمته أن الكرة الحديثة تتطلب أكثر من فلسفة واحدة، ففي مباراة قد يبدأ فريقه ببناء الهجمات ببطء كساحر ينسج خيوطاً من حرير، وفي أخرى يتحول إلى إعصار يضرب بسرعة البرق، وعندما تدعو الحاجة، يصبح فريقه قلعة حصينة ترد عنها الهجمات. 

هذه القدرة الفريدة على الجمع بين الأصالة والمعاصرة، بين التمريرات القصيرة في سوسيداد والتحولات السريعة في ليفركوزن، هي ما يميز ألونسو عن غيره من المدربين، فكما يوضح الرسم البياني أدناه، لم يحقق أي فريق متوسط ​​تمريرات أعلى في كل سلسلة خلال المباريات الخمس الافتتاحية أكثر من ليفركوزن، حيث تشير سرعة تحرك الكرة نحو الأمام إلى قدرته على اللعب بسرعة وحسم عندما تتاح له مساحة كافية، وفي نفس الوقت، استطاع تحويل حول هذه المرونة المتأصلة فيه من أيام سوسيداد إلى سلاح فتاك، محولاً الفرق غير المستقرة إلى آلات دقيقة تعرف متى تلعب وكيف تلعب، وكما أن النهر يحتفظ بجوهره رغم تغير أشكاله أثناء الجريان، ظل ألونسو متمسكاً بأصوله مع القدرة على التكيف مع كل ظرف، محققاً المعادلة الصعبة: التطور دون التخلي عن الجذور.

ثم أن تلك النقلة النوعية لباير ليفركوزن لم تكن  وليدة الصدفة، بل جاءت ثمرة تخطيط محكم في سوق الانتقالات، التعاقدات الصيفية شكلت القطع المفقودة في أحجية ألونسو التكتيكية، حيث وفرت له تشكيلة متعددة المهارات تسمح بالتحول بين أنظمة لعب مختلفة بسلاسة، فعلى الجانب الأيسر، برز أليخاندرو جريمالدو كإضافة استثنائية، هذا الظهير الذي سجل 12.7 تمريرة حاسمة متوقعة مع بنفيكا (ليتفوق على كل أظهرة أوروبا عدا خمسة فقط)، جمع بين الموهبة الهجومية النادرة والانضباط الدفاعي، قدرته الفريدة على الموازنة بين الهجوم والدفاع أعطت الفريق مرونة غير مسبوقة. 

باير ليفركوزن
باير ليفركوزن
(المصدر: gettyimages)

في خط الدفاع، شكل الثلاثي تابسوبا وتاه وكوسونو حائطاً متحركا، اندفاعاتهم الذكية للأمام حررت الجناح الأيمن جيريمي فريمبونج، الذي تحول إلى كابوس لدفاعات الخصم بفضل المساحات التي وفرها له زملاؤه، وفي وسط الملعب، رسم ألونسو لوحة متكاملة أيضا: جوناس هوفمان: الموهبة الفنية التي تربط بين الخطوط بسلاسة، وجرانيت تشاكا: القوة الصلبة في مركز الارتكاز، وفلوريان ويرتز: العقل الإبداعي الذي يتجول بحرية في المناطق الهجومية هذه التركيبة الذكية من المواهب المتناغمة حولت ليفركوزن من فريق عادي إلى آلة متكاملة، تتنقل بين الهجوم والدفاع كقطعة موسيقية متناغمة. كل لاعب أصبح لبنة في صرح ألونسو التكتيكي، وكل مهارة وجدت مكانها الأمثل في النظام الجديد.

تلك النجاحات، جعلت الجميع داخل أروقة نادي باير ليفركوزن، يتحدثون عن ذلك المزيج النادر الذي يجسده الرجل، حتى أن مسؤول رفيع المستوى في النادي، طلب عدم الكشف عن هويته، كشف لـ“ذا أثليتيك” عن بعض أسرار هذه الشخصية الفريدة: “إنه يجمع بين الفهم النظري العميق للعبة وهالة من النجومية النادرة، كونه فاز بكل شيء كلاعب، وهذا المزيج القوي يمنحه مصداقية لا مثيل لها في غرفة الملابس”. لكن المفارقة تكمن في أن هذا الأسطورة السابق يحتفظ بأخلاقيات عمل المتدرب المبتدئ والشغوف حقًا، إنه أول من يصل وآخر من يغادر كل يوم، ينغمس في التفاصيل التكتيكية لساعات طويلة وكأنه يكتشف اللعبة للمرة الأولى. هذا الشغف الذي لا يعرف الحدود هو ما جعله يحول الفريق إلى ما هو عليه اليوم، فهل يأتي الدور على ريال مدريد لقطف ثمار هذا العمل الدؤوب؟ 

من واحة الراحة إلى عاصفة التغيير

في ليفركوزن، تلك “الواحة الهادئة” التي اعتادت على قلة الضغوط، نجح تشابي ألونسو في كتابة قصة مختلفة. لم تكن خطاباته الملتهبة ولا صيحاته المدوية هي ما غيّر النادي، بل ذلك الإيمان الصامت الذي ينبع من عينيه كلما تحدث عن كرة القدم، لقد حوّل قناعته الداخلية إلى عدوى جماعية، جعلت الجميع، من اللاعبين إلى موظفي النادي، يؤمنون بأن المستحيل مجرد كلمة. والآن، يقف هذا الساحر الهادئ على أعتاب تحدي قد يكون الأكبر في مسيرته: ريال مدريد، حيث الأضواء أكثر سطوعا والضغوط أكثر قسوة، ولذلك فقد يقف النادي نفسه أمام معضلة وجودية. 

جيسوس على الخط وأنشيلوتي يراقب .. هل انتهى زمن البرازيل؟

من ناحية، أنشيلوتي الأسطورة الذي يعرف كل زوايا البرنابيو، لكن رياح التغيير تضغط بقوة. ومن ناحية أخرى، ألونسو البرعم الذي يحمل في داخله بذور ثورة جديدة، لكنها تحتاج إلى الوقت والرعاية كي تثمر. ما فعله ألونسو في ليفركوزن لم يكن مجرد تحسين للأرقام، بل كان تغييراً ثقافياً. لقد أثبت أن القيادة الحقيقية لا تحتاج إلى ضجيج، وأن الإنجازات تتحدث عن نفسها. لكن السؤال الذي يطرح نفسه بقوة: هل يمكن لهذه الفلسفة أن تنجح في ريال مدريد، حيث لا يوجد متسع للانتظار، وحيث المطالب تكون أحياناً أكبر من الواقع؟

ربما تكمن الإجابة في التوازن، كما وجد ألونسو في ليفركوزن مساحة لتنفيذ رؤيته بعيدا عن الضغوط المختنقة، قد يحتاج ريال مدريد إلى حل وسيط، فترة انتقالية تمنح ألونسو فرصة للتعرف على متطلبات النادي العملاق، وتتيح للإدارة تقييم مدى جاهزيته لقيادة سفينة بهذا الحجم، وهي دعوة هامة خاصة وأن كرة القدم، وخاصة في مدريد، نادرا ما تميل إلى الحلول الوسط، والقرارات تتخذ في لهيب اللحظة، بين صراخ الجماهير وضجيج الصحف، في النهاية، سواء كان الخيار هو التمسك بالأسطورة القديمة أو المغامرة بالوافد الجديد، فإن شيئا واحدا مؤكدا: الفصل القادم سيكتبه فقط من يمتلك تلك القناعة التي لا تتزعزع، والتي تجعل المستحيل ممكنا،  لأن في النهاية، كما تعلمنا من ألونسو نفسه، الإيمان الحقيقي هو أقوى من أي ضغوط، وأبقى من أي تحديات.

< a href="https://news.twaslnews.com/365scores/117555/">

‫0 تعليق

اترك تعليقاً